الدينار الليبي والإصلاح الاقتصادي المفتقد للرؤية
في مايو من العام نفسه، تم تخفيض قيمة الدينار ليساوي 2.60645 وحدة حقوق سحب خاصة. كما طرأ تخفيض آخر عام 2003 بمعدل 15%، لتتراجع قيمة الدينار إلى ما يعادل 0.5175 وحدة حقوق سحب خاصة، أما آخر تخفيض للدينار فجرى مطلع هذا العام بتاريخ 3 يناير 2021، حيث تم تخفيض القيمة الرسمية للدينار إلى 0.1555 حقوق سحب خاصة.
في العقد الأول من هذا القرن، كانت القيمة التعادلية للدينار الليبي مستقرة إلى حد ما، ولم يكن ذلك نتيجة للسياسة الاقتصادية الحكيمة للدولة، بل نتيجة ارتفاع أسعار النفط الخام في الأسواق الدولية، حيث فاق سعر برميل النفط 100 دولار في بعض الفترات. لكن عندما انخفضت أسعار النفط عام 2013، انكشفت عشوائية سياسات المصرف المركزي والحكومة معاً، وظهرت أكثر مشاكل وتعقيدات الاقتصاد الليبي.
وكان مما أسهم في هذه المشاكل والتعقيدات، بالإضافة إلى انخفاض أسعار النفط، الانقسام الحاد على المستويين السياسي والاقتصادي. ففي أواخر عام 2014، انقسمت الحكومة إلى حكومتين: واحدة في الغرب والأخرى في الشرق؛ كما انقسم المصرف المركزي كذلك إلى مصرفين مركزيين يحملان الاسم نفسه أي «مصرف ليبيا المركزي»، لكن بمُحافِظَين وإدارتين مختلفتين.
أدى الانقسام الجديد في البلاد إلى مشاكل جديدة، لعل أهمها تدني قيمة الدينار مقابل الدولار وغيره من العملات الأجنبية، فضلاً عن عجز المصارف عن توفير السيولة النقدية لتغطية الحسابات الجارية لديها، ونمو السوق السوداء للعملات الأجنبية، حيث ارتفع سعر الدولار في هذه السوق بأكثر من خمسة أضعاف سعره الرسمي، وزيادة الإنفاق العام، وارتفاع مستوى التضخم إلى معدلات غير مسبوقة تجاوزت في بعض السنوات 28%.
تكمن المشكلة المالية الليبية - سواء من جانب الحكومة أو المصرف المركزي - في الخلط بين مختلف أهداف السياسات الاقتصادية، إذ لا يراعي أي من الطرفين ضرورة وجود هدف محدد لكل سياسة اقتصادية، سواء كانت نقدية أم مالية أم تجارية. لذلك يتم مثلاً خفض قيمة الدينار بهدف زيادة الموارد المالية للميزانية العامة، وبالتالي زيادة الإنفاق العام، دون النظر في أثر ذلك على ميزان المدفوعات. كذلك تعمل كل مؤسسة دون تنسيق مع غيرها من المؤسسات، سواء تحدثنا عن مصرف ليبيا المركزي، أو وزارة المالية، أو وزارة الاقتصاد، وهو ما يؤدي لإغفال ما تتركه أدوات أي سياسة متّبعة من آثار سلبية على القطاعات الأخرى.
لم تكن لدى الحكومة أو لدى المصرف المركزي رؤية واضحة أو سليمة لمعالجة المشاكل التي يمكن حلّها في المدى القصير، ناهيك عن مشاكل أخرى في الاقتصاد الليبي - مثل تفشّي البطالة - تحتاج وقتاً أطول وسياسات سليمة ومتماسكة. وقد اتخذ كل من المصرف المركزي والحكومة في 2018 سياسات عشوائية سمّياها «برنامج الإصلاح الاقتصادي».
تمثل «البرنامج» من جهة أولى في بيع المصرف المركزي 500 دولار سنوياً لكل فرد ولجميع الأعمار بالسعر الرسمي، وهو نحو 1.4 دينار للدولار الواحد، فيما يعرف بمنحة أرباب الأسر، ثم تم رفع المبلغ فيما بعد في 2019 إلى 1000 دولار للفرد. اعتبر المصرف المركزي ذلك تعويضاً للمواطن عن آثار التضخم، فيما كان الأخير يبيع هذه الدولارات في السوق السوداء بنحو أربعة أضعاف سعر المصرف المركزي. وهو يعني أن المصرف المركزي يغذّي وجود السوق السوداء التي يجدر به محاربتها.
من جهة ثانية، قامت الحكومة منذ أكتوبر 2018 بفرض ضريبة على بيع العملة الأجنبية من المصرف المركزي نسبتها 183% من السعر الرسمي، ليرتفع سعر الدولار للراغبين بشرائه حوالي 3.85 دينار، بينما يبلغ سعر الدولار الرسمي لدى الحكومة 1.4 دينار فقط. لكن الحكومة خفّضت هذه الضريبة إلى 163% في يوليو 2019، ليباع الدولار بنحو 3.65 دينار. ولكن نتيجة لتفشي الفساد في أجهزة الدولة، لم يُفرَض السعر مع الضريبة على الجميع، بل وُجدت استثناءات لبعض الأشخاص والجهات، والتي حصلت على الدولار بالسعر الرسمي دون أي ضريبة.
وفي مطلع هذا العام، قام المصرف المركزي في 3 يناير 2021 بإجراء عشوائي وهو تخفيض القيمة الرسمية للدينار بنحو 70%، وذلك من 0.15175 وحدة حقوق سحب خاصة للدينار الواحد إلى 0.1555 وحدة، ما يعني رفع قيمة الدولار الواحد بنحو 220% من 1.4 دينار إلى 4.48 دينار. سيؤدي هذا الإجراء إلى توفير سيولة نقدية في المدى القصير، وإلى توفر أموال غزيرة لدى الخزانة العامة نتيجة ارتفاع قيمة الدولار الذي تحصل عليه الحكومة من تصدير النفط، ولعل ذلك هو السبب الحقيقي غير المعلن وراء خفض قيمة الدينار. إلا أن هذه الخطوة لم تُدرَس آثارها جيداً على مستويات أخرى. فبالنسبة للمواطنين من ذوي الدخول الثابتة، والذين يتقاضون أجوراً ومرتبات، ستنخفض دخولهم الحقيقية بنفس معدل انخفاض قيمة الدينار، أما بالنسبة لسوق السلع فسيؤدي هذا الإجراء إلى زيادة عمليات التهريب، ولا سيما تهريب البنزين.
إن ما لم تراعِه الحكومة ولا المصرف المركزي هو أن تخفيض قيمة الدينار يجب أن يترافق مع برنامج إصلاحي شامل، يتمثل في تفعيل أدوات السياستين النقدية والمالي، لضبط الإنفاق بالعملتين المحلية والأجنبية والسيطرة على عرض النقود، ومحاربة الفساد في أجهزة الدولة ومنع الاحتكار، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وخصخصة القطاع العام، وغير ذلك من الإصلاحات الضرورية، حتى يؤدي كل ذلك إلى تنويع مصادر الدخل - ما يعني تجنب الاعتماد على دخل تصدير النفط الخام وحده - وكذلك استقرار الأسعار وخفض معدل البطالة المرتفع. عندها سوف تستقر القيمة التعادلية للدينار ويتم التخلص من السوق الموازية والتشوهات في الاقتصاد. كل ذلك يتطلب وجود إدارة كفؤة لإدارة اقتصاد البلد، وهو ما تفتقده ليبيا الآن بكل أسف.
###
أ.د. عطية المهدي الفيتوري أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي