عقد من تثبيط التغيير الديمقراطي
أدت التحولات في المعونات الإنمائية منذ "الربيع العربي" إلى تغيير وضع المجتمع المدني في المنطقة، ما قوض قدرته على دعم الإصلاح الديمقراطي. وتحولت مجموعة من المنظمات التي تركز على الديمقراطية في الأردن إلى وسطاء يقدمون برامج غير سياسية مدفوعة بالعرض.
فعندما اندلع "الربيع العربي"، كان مناخ المجتمع المدني في مختلف أنحاء المنطقة قد تم بالفعل إضفاء الطابع الليبرالي عليه. قد بدأ ذلك في منتصف إلى أواخر التسعينات عندما أفسحت برامج التكيف الهيكلي في "توافق آراء واشنطن" المجال أمام الليبرالية الجديدة "الأنعم" التي أكدت على فوائد الحكم الرشيد. ومع زيادة التركيز على إشراك طائفة أوسع من الجهات الفاعلة، تم تحديد المجتمع المدني بوصفه أحد أصحاب المصلحة الرئيسيين الذين ينبغي للحكومات أن تشارك معهم في تعزيز الحكم الرشيد. وبالتالي تم التشديد على إقامة شراكات مع المنظمات المحلية التي تتمتع بالصفات المنشودة للتنمية الدولية، مما يشجع على إضفاء الطابع المهني على المجتمع المدني.
زاد من آثار هذا النموذج الإنمائي الليبرالي الجديد شبه المهيمن ما تلا ذلك من تسنيد للمعونة الأجنبية. وفي أعقاب 11 سبتمبر و"الحرب على الإرهاب"، حركت الشواغل الأمنية مركز الصدارة بالنسبة للمانحين، وكثيرا ما أثارت الأهداف الإنمائية للألفية التي تم الاتفاق عليها عشية هجوم القاعدة.
وتكثفت آثار هذه "الليبرالية الجديدة" في أعقاب "الربيع العربي". وفي السياق الأردني، أسفرت الحرب السورية، وما ترتب على ذلك من أزمة اللاجئين، والتهديد المتزايد من داعش، عن إحداث تغييرات كبيرة في سياسات الحكومة الأردنية والمستفيدين الدوليين منها.
حدثت هذه التحولات لسببين. أولا، كان على المانحين في الأردن أن يعيدوا ترتيب أولويات تمويلهم استجابة لتدفق اللاجئين. وثانيا، وفي خضم الأزمات الإقليمية، توسعت الأهمية الجيوسياسية للأردن، ما شجع مجتمع المانحين على زيادة التركيز على ضمان استقرار المملكة. ونتيجة لذلك، أصبح معظم المانحين غير راغبين على نحو متزايد في دعم ارتباطات المجتمع المدني الخلافية، وبدلاً من ذلك دعموا المنظمات التي يمكن أن تدعم الاستقرار الأردني.
وكان لهذه التغييرات أثر عميق على مجموعة من المنظمات الأردنية التي تركز على الديمقراطية. وقد ظهرت هذه المنظمات خلال العقد أو العقدين قبل "الربيع العربي". وتمشياً مع الليبرالية الجديدة، استولت عليها الجهات الدولية الفاعلة في تسعينيات القرن العشرين ووفي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، وقدمت دعماً كبيراً لرفع مستوى عملياتها وإضفاء الطابع المهني عليها، فضلاً عن تمويل جهودها الرامية إلى متابعة الإصلاحات الاجتماعية والسياسية (التي كثيراً ما تثير الخلاف).
وبعد "الربيع العربي"، تغير هذا الدعم تغيرا جذريا، مما يعكس التركيز الشديد على الأمن والاستقرار. ولا تزال هناك آليات تمويل لا تعد ولا تحصى، ولكن المنظمات اشتكت من أن فرص الإنشاء المشترك تتضاءل في حين أن البرامج التي تقودها الإمدادات تزداد بروزا. ولم تكن هذه الشكاوى دقيقة تماماً؛ وظلت البرامج تؤدي جزئيا إلى الطلب، ولكن المطالب تمليها بشكل متزايد حكومة الأردن، وليس المجتمع المدني.
وعلى الرغم من إحباطها إزاء بيئة المعونة المتغيرة، فإن المنظمات التي تركز على الديمقراطية حريصة على ألا تترك خلفا. وقد أعادت هذه البلدان، التي كانت على دراية بمداخل ومخارج مجال التنمية، وضعت نفسها كخيارات تمويل جذابة لأولويات البرامج الجديدة. وسرعان ما اعتمدوا مراسيم الحكم الرشيد والاستقرار وصمموا أنفسهم على أنهم خبراء في المجالات التقنية التي تدخل حيز النفاذ.
ونتيجة لذلك، شهد الأردن ظهور مجموعة من المنظمات التي يشار إليها، في سياقات أخرى، باسم "المنظمات الوسيطة". وتلقى هؤلاء الوسطاء مستويات عالية من التمويل من المانحين. وتم التعاقد معها من أجل تقديم مدخلات "محلية" في البرامج وكذلك من أجل طائفة من الخدمات المطلوبة، بما في ذلك بناء القدرات التنظيمية، والتدريب وتنمية قدرات الموظفين، والبحث والدعوة، وجمع المعلومات ونشرها، والربط الشبكي.
وعلى مدى العقد الماضي، حاول هؤلاء الوسطاء الحفاظ على استقلالهم وتجنب أن يصبحوا "قريبين جداً للراحة" من مانحيهم، ولكنهم اضطروا إلى التخلي عن أهدافهم الأكثر إثارة للخلاف ــ أهدافهم الديمقراطية.
ونتيجة لذلك، فإن نشأة المنظمات الوسيطة في مشهد ما بعد "الربيع العربي" في الأردن قد ميزت اختفاء ركيزة رئيسية لتعزيز الديمقراطية في المملكة.
###
إي جي كارمل طالب دكتوراة في جامعة جيلف بكندا
1David Hulme and Michael Edwards, eds. NGOs, States and Donors: Too Close for Comfort? (London: Macmillan, 1997)