فقد التحوُّل الديمقراطي في تونس، بصفته عنوانا للأمل في العالم العربي، بريقه. فمنذ 25 يوليو/جويلية 2021، تمَّ تفكيك الصرح المؤسسي الذي أفرزه دستور 2014 برمته بسرعة وسهولة مُثيرتين للقلق.
فقد التحوُّل الديمقراطي في تونس، بصفته عنوانا للأمل في العالم العربي، بريقه. فمنذ 25 يوليو/جويلية 2021، تمَّ تفكيك الصرح المؤسسي الذي أفرزه دستور 2014 برمته بسرعة وسهولة مُثيرتين للقلق، تفكيك جاء على الهيئات المستقلة، والبرلمان، والجماعات المحلية. والأهم من كل ذلك، أنه نجح أيضًا في القطع مع طريقة إدارة سلطة برمتها كانت فيما مضى تُشرك الأجسام الوسيطة والمجتمع المدني في الحوار وتنفيذ القوانين والسياسات العامّة.
قوى ديمقراطية مهمّشة
اللافت في الأمر أن هذا القطع فرض نفسه دون مقاومة جدّية تُذكر. تتسم مختلف الدعوات للتظاهر في الشارع هذه المرّة بدعوة من المعارضة السياسية بكونها محتشمة، كما ظلت تنديدات المجتمع المدني حبرا على ورق اقتصرت على بيانات صحفية رمزية دون أي يكون لها أثر يُذكر. كيف يمكن أن نفسّر هذا الخمول في الوقت الذي ظنَّ فيه عديد المراقبين أن المجتمع التونسي يتحوز على ما يكفي من "الأجسام المضادة الديمقراطية" تحُول دون انحراف البلاد مرة أخرى نحو الاستبداد؟
في الوقت الحالي، بدأت تروج فكرة مفادها أن "مسار 25 يوليو/جويلية" لم يكن ليرى النور لولا غياب رد فعل قوي من قِبَلِ "الديمقراطيين" حيال تصريحات سعيد في ذلك المساء. قد يكون الاحتشام أو التردد أو المساندة النقدية وراء تفعيل الفصل 80 الذي خوّل للرئيس الإعلان عن حالة الاستثناء التي ربما لم يكن بوسع سعيد أن يكون ماهو عليه اليوم لولاها. يعود سبب هذا الخطأ إلى "العداء المهووس" لجزء من النخبة السياسية والفكرية لحزب حركة النهضة الإسلامي.
تُبين هذه التحليلات إنكار أصحابها للواقع، وتستند إلى اتجاه رائجٍ فعليا في بعض الأوساط السياسية والفكرية، لكنّها تعطي لهذا الأخير حجما لا يتناسب مع ما يجري من أحداث.
يمكننا تخيُّل سيناريوهات بديلة لما يمكن أن يكون قد حدث مساء 25 يوليو/جويلية 2021. لنفترض، على سبيل المثال، أنه غداة خطاب سعيد حول تفعيل الفصل 80 وإعلان تعليق أعمال البرلمان، تكون جميع أحزاب المعارضة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني قد شكّلت جبهة موحدة تطالب بالعودة إلى الاحتكام إلى المؤسسات وعبّرت حينها عن معارضتها الراديكالية لقرارات الرئيس. هل كان بوسع هذا المعطى، وحده، أن يؤدي إلى تغيير جذري في ميزان القوى؟ هل كنّا سنشهد تظاهر عشرات الآلاف من التونسيين في الشوارع دفاعا عن الدستور؟ أم كنّا سنشهد، على العكس من ذلك، احتفالات مساء يوم 25 يوليو / جويلية الشعبية؟
كان سيكون الأوان قد فات حينها بالفعل لوقف مجرى أحداث 25 يوليو/جويلية، وربما لم يكن هناك مخرج آخر. كانت الظروف مهيأة بالفعل لـ "نجاح" هذا المسار الجديد كنتيجة للعديد من الأخطاء والتوجهات الهيكلية التي ميزت المشهد السياسي التونسي.
ألاّ يُؤخَذَ سعيّد على محمل الجد: الخطيئة الأصلية للنخبة السياسية
إذا كان لابد من وضع الأصبع على أخطاء النخبة السياسية التونسية التقديرية، سيكون لزاما علينا أن نعود إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في عام 2019. وسواء تم ذلك بدافع الانتهازية السياسية أو معارضة صادقة لنبيل القروي، فإن الدعم شبه الإجماعي جعل قيس سعيد يتبوأ موقعا مريحا وأكسبه إلى اليوم شرعية شيّد على قاعدتها مُجمل مساعيه. حصل هذا الدعم رغم أن أعلن سعيد صراحة، وفي عدة مناسبات، أنه يريد تغيير النظام السياسي بغاية بناء مدينته الفاضلة.
علاوة على ذلك، كان يطمح إلى تنفيذ هذا المشروع دون إسناد برلماني، وهو ما أُعتبر بشي من الصلف إيذانا بفشل هذا المشروع، في تلك الحقبة، بسبب هذا التناقض بالذات، في حين أن الخطر يكمن هناك تحديدا، حيث أظهرت مقاربة سعيّد أنه يرفض الاحتكام للمؤسسات المنبثقة عن دستور 2014 الذي لا يعتبره مرجعية شرعية.
يتمثل الخطأ المأساوي، الذي يتفق حوله صنّاع القرار السياسي والمجتمع المدني والمراقبون الأجانب على حد سواء، في الاعتقاد بأن عام 2014 مثل نهاية التاريخ، حيث بقيت ذهنية جزء كبير من النخب حبيسة سردية مفادها أن دستور 2014 لا تشوبه شائبة وأنه لا يمكن التفكير في بديل خارج هذا الإطار. ولهذا السبب لم يأخذ الكثير منهم خطاب قيس سعيد على محمل الجد في عام 2019، ورحبوا بانتخابه، حتى عندما وعد علنًا بقلب الأمور رأسا على عقب وإحداث قطيعة جذرية مع النظام القائم.
حاول القادة السياسيون الرئيسيون السير في ركاب الموجة الشعبوية دون أن يتبادر إلى أذهانهم أنها ستُغرقهم لاحقا. كان يتعين عليهم أن يأخذوا رجل السياسة القوي الجديد هذا على محمل الجد، وأن يتعاملوا معه بندية بصفته خصما عوض الاعتقاد بأنهم قادرون على استمالته. كان ينبغي عليهم، ومنذ الإعلان عن نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، أن يكونوا حاسمين ويطالبوا بالامتناع عن التصويت. وهو ما كان من شأنه أن يضفي على انتقاداتهم اللاحقة لسعيد أكثر مصداقية ويجعلها جديرة بالاهتمام. لذلك، أوَّل المواطنون مختلف التحذيرات (خاصة تلك الصادرة عن حزب حركة النهضة) على أنها انقلاب وضرب من النفاق.
التحييد ونفي الطابع السياسي
بالإضافة إلى الأخطاء التقديرية للنخبة السياسية، يمكن تفسير تطور الوضع الحالي وفقا لعدة اتجاهات أساسية:
- أحزاب سياسية ضعيفة للغاية وغير متجذرة كفاية في المجتمع وفقدت مصداقيتها جراء فشلها في الحكم. اليوم، تعتبر الأحزاب التونسية أشبه بأُطُرٍ نخبوية أكثر من كونها منظمات شعبية ذات قاعدة مناضلة صلبة يمكنها الإدلاء بدلوها ميدانيا وحشد المواطنين.
- مُجتمع مدني تمّ تحييده وإضعافه بفعل تتالي الهزائم (عدم تنفيذ توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة أو العجز عن التأثير في سعيد وجميع قرارات ما بعد 25 يوليو/جويلية). يبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل، المركزية النقابية القوية، هو الوحيد الذي يشكل سلطة مضادة جادة ولكن على الرغم من قوته ، فهو وحيد تمامًا في الوقت الحالي.
- بدأ التراجع التدريجي الكبير لمشاركة المجتمع التونسي بأسره في الشؤون السياسية حوالي عام 2014، ومثّل، على وجه الخصوص، ضريبة الالتقاء بين نداء تونس (العلماني) والنهضة (الإسلامي). بعد دخولهما في ائتلاف حكومي قُلِّلَ من حجم ضرره حينها، أثار تحالف هذين الحزبين، اشمئزازًا عميقًا في صفوف المناضلين السياسيين (سواء في المعسكر العلماني أو الإسلامي). اعتبر الكثيرون أن الحزبين لا يتجاوزان كونها مجرد بيدقين يخدمان طموحات "الشيخين" (الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، قياديي الحركتين)، فكان ثمن إرساء الاستقرار السياسي، على نسبيته، هو عزوف المواطنين عن الاهتمام بالقضايا العامة ونفورهم من المشاركة في الشأن السياسي. يُعتبر هذا الفراغ هو المسؤول اليوم عن تغدية النزوع تحو الحكم المطلق وعن جعل السلطة طليقة اليدين.
في الوقت الحاضر، وبالإضافة إلى القضايا العاجلة المتعلقة بالدفاع عن الحقوق والحريات، من المهم أن تتمعن المنظمات الديمقراطية والتقدمية (الأحزاب والجمعيات والنقابات) في أسباب فشلها وتساءل نفسها. على وجه الخصوص، يجب الاشتغال على عدة نقاط على غرار ديمقراطية داخلية حقيقية ونموذج نضالي تجديدي يُشرك وجوها شبابية جديدة، وأخيراً تفكيرا جديّا وبراغماتيا في تحديات تونس في السياق الدولي الحالي (أزمة العولمة النيو ليبرالية، التقلبات المناخية، التحولات التكنولوجية التي ستؤثر على عالم العمل) الذي لا يخضع للتحليلات العرقية والنمطية المُعتمدة طيلة السنوات الأخيرة.
Share your ideas with our team!
info.mena@fes.de
This site uses third-party website tracking technologies to provide and continually improve our services, and to display advertisements according to users' interests. I agree and may revoke or change my consent at any time with effect for the future.
These technologies are required to activate the core functionality of the website.
This is an self hosted web analytics platform.
Data Purposes
This list represents the purposes of the data collection and processing.
Technologies Used
Data Collected
This list represents all (personal) data that is collected by or through the use of this service.
Legal Basis
In the following the required legal basis for the processing of data is listed.
Retention Period
The retention period is the time span the collected data is saved for the processing purposes. The data needs to be deleted as soon as it is no longer needed for the stated processing purposes.
The data will be deleted as soon as they are no longer needed for the processing purposes.
These technologies enable us to analyse the use of the website in order to measure and improve performance.
This is a video player service.
Processing Company
Google Ireland Limited
Google Building Gordon House, 4 Barrow St, Dublin, D04 E5W5, Ireland
Location of Processing
European Union
Data Recipients
Data Protection Officer of Processing Company
Below you can find the email address of the data protection officer of the processing company.
https://support.google.com/policies/contact/general_privacy_form
Transfer to Third Countries
This service may forward the collected data to a different country. Please note that this service might transfer the data to a country without the required data protection standards. If the data is transferred to the USA, there is a risk that your data can be processed by US authorities, for control and surveillance measures, possibly without legal remedies. Below you can find a list of countries to which the data is being transferred. For more information regarding safeguards please refer to the website provider’s privacy policy or contact the website provider directly.
Worldwide
Click here to read the privacy policy of the data processor
https://policies.google.com/privacy?hl=en
Click here to opt out from this processor across all domains
https://safety.google/privacy/privacy-controls/
Click here to read the cookie policy of the data processor
https://policies.google.com/technologies/cookies?hl=en
Storage Information
Below you can see the longest potential duration for storage on a device, as set when using the cookie method of storage and if there are any other methods used.
This service uses different means of storing information on a user’s device as listed below.
This cookie stores your preferences and other information, in particular preferred language, how many search results you wish to be shown on your page, and whether or not you wish to have Google’s SafeSearch filter turned on.
This cookie measures your bandwidth to determine whether you get the new player interface or the old.
This cookie increments the views counter on the YouTube video.
This is set on pages with embedded YouTube video.
This is a service for displaying video content.
Vimeo LLC
555 West 18th Street, New York, New York 10011, United States of America
United States of America
Privacy(at)vimeo.com
https://vimeo.com/privacy
https://vimeo.com/cookie_policy
This cookie is used in conjunction with a video player. If the visitor is interrupted while viewing video content, the cookie remembers where to start the video when the visitor reloads the video.
An indicator of if the visitor has ever logged in.
Registers a unique ID that is used by Vimeo.
Saves the user's preferences when playing embedded videos from Vimeo.
Set after a user's first upload.
This is an integrated map service.
Gordon House, 4 Barrow St, Dublin 4, Ireland
https://support.google.com/policies/troubleshooter/7575787?hl=en
United States of America,Singapore,Taiwan,Chile
http://www.google.com/intl/de/policies/privacy/