لقد تمكّنت الشخصيات الشعبوية في تونس وفي العالم من الوصول إلى السلطة من خلال استعارة خطاب غير عقلاني «يلعب على العواطف على حساب العقل ويُضفي الصبغة الدرامية على السيناريو إلى أقصى حد» .[1]
يُصاحب هذه الحساسية المفرطة إزاء ما هو عاطفي رفض بل وحتى إلغاء متزايد الأهمية للخطاب العقلاني الذي يُتهم بالنخبوية والتعالي. وما يُثير القلق في هذا النمط الجديد، خاصة في بلادنا، هو أن العواطف لا تمنح بشكل عام حلولاً متسقة أو تُقدم على الأقل حلولاً زائفة أو مزيّفة من أجل الاستفادة منها سياسيًا في مرحلة لاحقة.
ولكن في الحقيقة، من أين يأتي هذا الانجذاب إلى ما هو غير عقلاني؟ ولماذا لم تعُد الديكارتية قادرة أو لا تتمكن من إبهار الجماهير؟
سوف نحاول ان نبحث في ميادين مختلفة من أجل تصوّر المشكلة في مجملها بشكل أفضل. ومن المفترض أن تكون هذه المقالة المتواضعة، التي تنطلق من الثقافة إلى علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي للوصول في نهاية المطاف إلى التحليل النفسي، خفيفة وموجزة من أجل تقريبنا من الفهم.
تتجلى موجة الشعبوية هذه بمظهر فوق حضاري لتبطل بذلك جميع الحواجز الثقافية.
يدافع صموئيل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات عن أطروحة التعددية الثقافية العالمية. وتقترح هذه النظرية، التي بدأت حقبة جديدة من تحلل العلاقات الجيوسياسية في فترة ما بعد الحرب الباردة، تقسيمًا للعالم إلى ثماني حضارات متميزة [2]، ألا وهي الحضارة الغربية والسلافية الأرثوذكسية والإسلامية والأفريقية والهندوسية والكونفوشيوسية وأمريكا اللاتينية واليابانية. ويفترض هنتنغتون أن هذه الحضارات، بالنظر إلى خصائصها اللغوية والتاريخية والدينية، ستشكل الأساس الجديد للخلافات الدولية اللاحقة بدلاً من الحروب الأيديولوجية في الماضي (بين الاتحاد السوفييتي والغرب من 1945 إلى 1991).
تلتقي هذه الحضارات، على الرغم من اختلافاتها الجوهرية، في قدرتها على انتخاب زعيم سياسي شعبوي، ويمكننا على سبيل المثال لا الحصر، ذكر الشخصيات التالية بالاعتماد على الترتيب المذكور أعلاه: دونالد ترامب (الولايات المتحدة الأمريكية) وألكسندر لوكاشينكو (بيلاروسيا) وقيس سعيد (تونس) وجيري رولينغز (غانا) [3] وناريندرا مودي (الهند) وشي جين بينغ (الصين) [4] وجاير بولسونارو (البرازيل) (تمت إضافة المراجع فقط للشخصيات التي لا يُعرف تصنيفها الشعبوي عالميًا).
ومع ذلك، فلقد تمكنت جاذبية هذا الخطاب الشعبوي غير العقلاني من تجاوز المستوى الثقافي والحضاري. ولا تقتصر هذه الجاذبية على حضارة معيّنة ولكنها، على العكس من ذلك، تتجاوز هذه العتبة لإثارة المجتمعات بغض النظر عن معتقداتها وتاريخها ولغتها. فهي ظاهرة عالمية لا يمكن تجاهلها في أي مكان من الأماكن.
لقد تم، منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع ظهور علم الاجتماع، تصوّر تيار يهدف إلى تحديد علاقة جديدة بين الأفراد والمجتمع بالاعتماد على معادلة بسيطة، ألا وهي المجتمع > مجموع الأفراد.
وتفترض هذه المقاربة الشمولية وجود ظاهرة مجتمعية تُنظم حياة جميع الأفراد الذين سماهم إميل دوركهايم، الأب المؤسس لعلم الاجتماع، بالحقيقة الاجتماعية.
تُمثل الحقيقة الاجتماعية باختصار الحياة الاجتماعية التي هي الجاذبية للمادة. كما أنها تُشكل شرطًا لها.
يُعرّف دوركهايم الحقيقة الاجتماعية على أنها قوة خارجية عن الضمائر الفردية تتمتع بسلطة قسرية على هذه الأخيرة. وبعبارة أكثر بساطة، تبرز إحدى تجليات الحقيقة الاجتماعية عندما يُطلب من الفرد التصرف بسلوك محدد في حالة محددة وأن يحترم قواعد الانسجام المحددة مسبقًا. فعلى سبيل المثال، عندما يتحول مشجع فريق كرة قدم، خجول وإنطوائي بطبيعته، عند انضمامه إلى الحشود إلى شخص جامح وهائج ويشتم الخصم ويكسر مقاعد الملعب ويرميها على الشرطة. يتحمس هذا المشجع في الواقع ويتحول في هذه الحالة الذهنية إلى معيار لم يختاره. ويكون هذا المعيار خارجيًا عنه، ولكنه يفرض نوعًا من أنواع ضغط القيد عليه.
يواجه المنطق نفس الحالة. ودعوني أشرح ذلك: لقد ظهر في ظل التطور التكنولوجي الأخير، على وجه الخصوص، معيار جديد - حقيقة اجتماعية جديدة - مفاده أن النخب وخطابها يفتقران إلى المصداقية [5].
سيكون لدى الناس خلال الجرد استعداد للمقاومة، فرضه المجتمع بالفعل والذي تسهله الغوغاء الإلكترونية المنفلتة من العقاب والممزوجة بمنشورات يتردد صداها في شبكات التواصل الاجتماعي والتي تنطوي على محتوى مُشوّه لمصداقية جميع الشخصيات ذات الصيت الأكاديمي أو السياسي، مهما علا أو تدنى هذا الصيت. ولقد أصبحت النخبوية -اعتبار النخب متفوقة بمعارفها والدفاع عن الخضوع للحكم من قبلها- إهانة وشتيمة. وبالتالي، فقد تحوّل كل ما يتم تجميعه حول مدار النخبوية، على غرار العقلانية والعلوم والمنطق والحس السليم والاستدلال وما إلى ذلك، إلى ضرب من ضروب القدح. وبما أن الحشود لا تفكر بعقلانية [6] ولا تفكر بعقلانية، فإنها تُقرّ بما يُقدم لها.
تلخص هذه الجملة المميزة لغوستاف لو بون المقتبسة من كتاب «Psychologie des foules» الأداء العضوي للحشود. ويعتبر لو بون الحشود كيانًا مدمجًا غير قابل لا للفصل ولا للاختزال من حيث الأفراد الذين يتألف منهم. ويحكم الحشود «قانون الوحدة العقلية». كما تتمتع هذه الأخيرة بمجموعة من الخصائص التي تُشكل الجزء الأهم والتي تشمل على وجه الخصوص الاندفاع والتهيج وعدم القدرة على التفكير بعقلانية، وغياب التقدير والتفكير النقدي، والمبالغة في المشاعر والإيحاء [8]. وتُصوّر هذه الخصائص ميّل النفوس للالتزام بالوقائع دون التفكير فيها بعقلانية.
وباختصار، فإن الحشود منيعة على التفكيرالمنطقي فحين أنها ضعيفة إلى حد كبير أمام ترابطات الأفكار التي يمكن اعتبارها بدائية أو غير قابلة للتصديق. [9]
نشر غوستاف لوبون كتابه في نهاية القرن التاسع عشر. ولقد كانت الحشود تتجلى في ذلك الوقت بشكل طبيعي في مجموعة من الأشخاص المتواجدين ماديًا في نفس المكان. وفي الوقت الحاضر وفي ظل ظهور الشبكات الاجتماعية والسهولة التي يمكن للأفراد من خلالها التواصل مع بعضهم البعض وإمكانيات النقاشات والتفاعلات في مجموعات الأحياء المعزولة (الغيتو)، فلقد انتشرت هذه الخصائص المذكورة أعلاه لتهتم أيضًا بمجموعة من الأشخاص الذين لا يتواجدون بالضرورة في نفس المكان. ولقد تطورت الحشود بحيث يمكن أن تكون الآن مادية وافتراضية في نفس الوقت. وكنتيجة لذلك، فمن المحتمل أن يكون لديها إمكانات هائلة للتضخيم.
لقد لاحظنا ذلك في عام 2019، بين جولتي الانتخابات الرئاسية، وبعد بث برنامج على قناة الحوار التونسي التلفزيونية الذي أُعلنت خلاله مواقف تؤثر على صورة قيس سعيد، والتي تم على إثرها تنفيذ حملة مقاطعة جماعية شارك فيها أكثر من 900 ألف مستخدم ومستخدمة على فيسبوك [10]. ولقد أبرزت هذه الحملة الاندفاع والمبالغة في مشاعر الحشود التي كانت تتويجًا لاقتراح بسيط قدمه مسؤول عن إحدى الصفحات مؤيّد للمرشح.
نتحدث في ميدان الطب عن مرض متوطن عندما يكون هناك انتشار لمرض معدي في منطقة معيّنة، ونتحدث عن الوباء عندما ينتشر المرض بسرعة وبشكل مفاجئ في عدة أماكن في نفس الوقت.
لقد اكتسبت روح الحشود، بسبب شبكات التواصل الاجتماعي، القدرة على التجديد والتوسع بشكل دائم مع الحفاظ على خصائصها. وكنتيجة لذلك، فلقد انتقلت الحشود من حالة التوطن - الحشود في الشارع - إلى حالة الوباء - الحشود الافتراضية - بحدود غير محددة. وهو ما أدى إلى تخلّي عدد متزايد من الناس عن نطاق العقلانية.
لقد رأينا للتو أن للحشود تأثير كبير على التقارب بين الأفراد. ولكن هل هناك بالفعل ميل نفسي خلقي للخطاب غير العقلاني؟
يأتي الجواب على سؤالنا من سيغموند فرويد. يقسّم هذا المحلل النفسي، الذي غير مسار التاريخ من خلال تقديم فكرة اللاوعي للبشرية، شخصية الفرد إلى ثلاثة كيانات، ألا وهي الأنا والأنا العليا والهو.
الأنا العليا: هي وريثة المحظورات والمعايير الأبوية. كما أنها أيضًا سليلة الأنا العليا لوالدينا. فهي القانون الداخلي الذي يملي علينا ما هو الصواب أو الخطأ. وهي تحكم وتراقب وتعاقب الأنا بشدة وحتى بقسوة لمواءمتها مع المقتضيات الغريزية للهو.
الهو: هو مكان الغريزة، وخاصة الرغبة الجنسية (الطاقة الحيوية التي تشمل رغباتنا وشهواتنا وغرائزنا الحياتية بطريقة عامة والتي تحدد نشاطنا الجنسي العيني والمُتخيّل). ويتجاهل الهول الأحكام القيمية أو الأخلاق أو الخير أو الشر. ويخضع أداءه لمبدأ المتعة. كما يدفع نحو التمتع ويتحدى المحظورات.
الأنا: هو جزء من الهو كان قد خضع لتمايز خاص من خلال اتصاله بالواقع الخارجي. ويمثل الحالة النفسية التي يرتبط بها الوعي وهو من يتولى التواصل مع العالم الخارجي. ويكمن دوره في الحفاظ على التوازن النفسي للمرء من خلال التكيّف مع القيود التي يفرضها الهو والأنا العليا.
يتفق جميع علماء النفس على أن الجزء اللاواعي من الجهاز النفسي هو الجزء الأكبر. ويُقدر علماء الأعصاب أن هذا الجزء يحتل 90٪ من نشاطنا العقلي [12].
إذا كان هذا الكيان اللاواعي يتكون، وفقًا لفرويد، من الأنا العليا والهة، فإن ذلك يعني أنه يتضمن الجزء الباطني والغريزي والتلقائي من شخصيتنا. وهكذا، فإن تحفيزه أثناء خطاب أحد الشخصيات السياسية على سبيل المثال - أي تحفيز الميراث والقوانين التي كبرنا معها والأحكام المجتمعية من ناحية، والملّذات والغرائز المكبوتة من ناحية أخرى - لا يمكن في الواقع إلا الترحيب به بأذرع مفتوحة.
وعلى النقيض من ذلك، فلا يستهدف الخطاب العقلاني، الذي لا يثير سوى عُشر أنفسنا، في الواقع إلاّ جزءًا صغيرًا للغاية منها. كما يعتبر هذا الجزء أضعف حتمًا من أن نتذوقه ومن أن يجول في أذهاننا.
تتفرع أصول هذا النفور مما يمكن تصنيفه على أنه عقلاني إلى عدة عوامل. وتساعدنا جميع العناصر المتعايشة، التي تشمل الحقائق الاجتماعية القائمة وتأثير الحشود على عمليات صنع القرار وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تؤكد الأفكار المُسبقة للأفراد وتجعل منها حقيقة راسخة، بالإضافة إلى التركيبة النفسية، على تحديد الأسباب الكامنة وراء هذا العجز عن تقبّل العقلانية.
مختبر الديمقراطية التونسية
يُركز «مختبر الديمقراطية التونسي» على تطوير أفكار مبتكرة حول مشاركة الشباب والتعبئة السياسية. ويهدف المشروع إلى تعزيز الدور الذي يضطلع به المواطن النشط/ المواطنة النشطة في مجال المشاركة السياسية ووضع السياسات. ويجمع مفهوم مختبر الديمقراطية التونسي بين الابتكار والنشاط والسياسة والتكنولوجيا. يعمل «مختبر الديمقراطية التونسية» على دفع المشاركة السياسية للشباب بالاعتماد على مختبر خاص بالابتكار والتعبئة الرقمية.
قائمة المراجع
[1] https://journals.openedition.org/mots/20534
[2] https://www.cairn.info/magazine-sciences-humaines-2010-1-page-16.htm
[3] https://polaf.hypotheses.org/files/2013/04/008008.pdf
[4] https://ses.library.usyd.edu.au/bitstream/handle/2123/18429/Xi%20Jinping-%20Communist%20China%e2%80%99s%20first%20populist%20president.pdf?sequence=2&isAllowed=y
[5] https://institutdelors.eu/wp-content/uploads/2020/08/socialnetworksandpopulism-dittrich-jdib-april17-2.pdf p 5
[6] La psychologie de la foule - Gustave le Bon - الصفحة 42
[7] نفس المرجع - الصفحة 7
[8] نفس المرجع - الصفحة 25
[9] نفس المرجع - الصفحات 53-55
[10] https://www.webdo.tn/2019/09/18/elhiwar-ettounsi-visee-par-une-campagne-de-boycott/
[11] https://www.psychologue-montpellier34.fr/2018/01/02/psy-actualit%C3%A9s-moi-%C3%A7a-et-surmoi/
[12] https://www.lemonde.fr/culture/article/2013/08/22/le-cerveau-et-ses-automatismes_3461861_3246.html#:~:text=Conscience%20ou%20inconscience%20ont%2C%20toutes,%C3%A0%20des%20processus%20forts%20diff%C3%A9rents.&text=Selon%20les%20auteurs%20du%20documentaire,le%20dessus%20sur%20la%20raison
شارك أفكارك مع فريقنا عبر البريد الإلكتروني
info.mena@fes.de
This site uses third-party website tracking technologies to provide and continually improve our services, and to display advertisements according to users' interests. I agree and may revoke or change my consent at any time with effect for the future.
These technologies are required to activate the core functionality of the website.
This is an self hosted web analytics platform.
Data Purposes
This list represents the purposes of the data collection and processing.
Technologies Used
Data Collected
This list represents all (personal) data that is collected by or through the use of this service.
Legal Basis
In the following the required legal basis for the processing of data is listed.
Retention Period
The retention period is the time span the collected data is saved for the processing purposes. The data needs to be deleted as soon as it is no longer needed for the stated processing purposes.
The data will be deleted as soon as they are no longer needed for the processing purposes.
These technologies enable us to analyse the use of the website in order to measure and improve performance.
This is a video player service.
Processing Company
Google Ireland Limited
Google Building Gordon House, 4 Barrow St, Dublin, D04 E5W5, Ireland
Location of Processing
European Union
Data Recipients
Data Protection Officer of Processing Company
Below you can find the email address of the data protection officer of the processing company.
https://support.google.com/policies/contact/general_privacy_form
Transfer to Third Countries
This service may forward the collected data to a different country. Please note that this service might transfer the data to a country without the required data protection standards. If the data is transferred to the USA, there is a risk that your data can be processed by US authorities, for control and surveillance measures, possibly without legal remedies. Below you can find a list of countries to which the data is being transferred. For more information regarding safeguards please refer to the website provider’s privacy policy or contact the website provider directly.
Worldwide
Click here to read the privacy policy of the data processor
https://policies.google.com/privacy?hl=en
Click here to opt out from this processor across all domains
https://safety.google/privacy/privacy-controls/
Click here to read the cookie policy of the data processor
https://policies.google.com/technologies/cookies?hl=en
Storage Information
Below you can see the longest potential duration for storage on a device, as set when using the cookie method of storage and if there are any other methods used.
This service uses different means of storing information on a user’s device as listed below.
This cookie stores your preferences and other information, in particular preferred language, how many search results you wish to be shown on your page, and whether or not you wish to have Google’s SafeSearch filter turned on.
This cookie measures your bandwidth to determine whether you get the new player interface or the old.
This cookie increments the views counter on the YouTube video.
This is set on pages with embedded YouTube video.
This is a service for displaying video content.
Vimeo LLC
555 West 18th Street, New York, New York 10011, United States of America
United States of America
Privacy(at)vimeo.com
https://vimeo.com/privacy
https://vimeo.com/cookie_policy
This cookie is used in conjunction with a video player. If the visitor is interrupted while viewing video content, the cookie remembers where to start the video when the visitor reloads the video.
An indicator of if the visitor has ever logged in.
Registers a unique ID that is used by Vimeo.
Saves the user's preferences when playing embedded videos from Vimeo.
Set after a user's first upload.
This is an integrated map service.
Gordon House, 4 Barrow St, Dublin 4, Ireland
https://support.google.com/policies/troubleshooter/7575787?hl=en
United States of America,Singapore,Taiwan,Chile
http://www.google.com/intl/de/policies/privacy/