سيكولوجية الحشود: لماذا لا يجول الخطاب العقلاني في عقول الناس؟
يُصاحب هذه الحساسية المفرطة إزاء ما هو عاطفي رفض بل وحتى إلغاء متزايد الأهمية للخطاب العقلاني الذي يُتهم بالنخبوية والتعالي. وما يُثير القلق في هذا النمط الجديد، خاصة في بلادنا، هو أن العواطف لا تمنح بشكل عام حلولاً متسقة أو تُقدم على الأقل حلولاً زائفة أو مزيّفة من أجل الاستفادة منها سياسيًا في مرحلة لاحقة.
ولكن في الحقيقة، من أين يأتي هذا الانجذاب إلى ما هو غير عقلاني؟ ولماذا لم تعُد الديكارتية قادرة أو لا تتمكن من إبهار الجماهير؟
سوف نحاول ان نبحث في ميادين مختلفة من أجل تصوّر المشكلة في مجملها بشكل أفضل. ومن المفترض أن تكون هذه المقالة المتواضعة، التي تنطلق من الثقافة إلى علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي للوصول في نهاية المطاف إلى التحليل النفسي، خفيفة وموجزة من أجل تقريبنا من الفهم.
هل أن هذه الظاهرة هي ظاهرة فوق حضارية؟
تتجلى موجة الشعبوية هذه بمظهر فوق حضاري لتبطل بذلك جميع الحواجز الثقافية.
يدافع صموئيل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات عن أطروحة التعددية الثقافية العالمية. وتقترح هذه النظرية، التي بدأت حقبة جديدة من تحلل العلاقات الجيوسياسية في فترة ما بعد الحرب الباردة، تقسيمًا للعالم إلى ثماني حضارات متميزة [2]، ألا وهي الحضارة الغربية والسلافية الأرثوذكسية والإسلامية والأفريقية والهندوسية والكونفوشيوسية وأمريكا اللاتينية واليابانية. ويفترض هنتنغتون أن هذه الحضارات، بالنظر إلى خصائصها اللغوية والتاريخية والدينية، ستشكل الأساس الجديد للخلافات الدولية اللاحقة بدلاً من الحروب الأيديولوجية في الماضي (بين الاتحاد السوفييتي والغرب من 1945 إلى 1991).
تلتقي هذه الحضارات، على الرغم من اختلافاتها الجوهرية، في قدرتها على انتخاب زعيم سياسي شعبوي، ويمكننا على سبيل المثال لا الحصر، ذكر الشخصيات التالية بالاعتماد على الترتيب المذكور أعلاه: دونالد ترامب (الولايات المتحدة الأمريكية) وألكسندر لوكاشينكو (بيلاروسيا) وقيس سعيد (تونس) وجيري رولينغز (غانا) [3] وناريندرا مودي (الهند) وشي جين بينغ (الصين) [4] وجاير بولسونارو (البرازيل) (تمت إضافة المراجع فقط للشخصيات التي لا يُعرف تصنيفها الشعبوي عالميًا).
ومع ذلك، فلقد تمكنت جاذبية هذا الخطاب الشعبوي غير العقلاني من تجاوز المستوى الثقافي والحضاري. ولا تقتصر هذه الجاذبية على حضارة معيّنة ولكنها، على العكس من ذلك، تتجاوز هذه العتبة لإثارة المجتمعات بغض النظر عن معتقداتها وتاريخها ولغتها. فهي ظاهرة عالمية لا يمكن تجاهلها في أي مكان من الأماكن.
هل يعتبر تراجع العقلانية حقيقة اجتماعية؟
لقد تم، منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع ظهور علم الاجتماع، تصوّر تيار يهدف إلى تحديد علاقة جديدة بين الأفراد والمجتمع بالاعتماد على معادلة بسيطة، ألا وهي المجتمع > مجموع الأفراد.
وتفترض هذه المقاربة الشمولية وجود ظاهرة مجتمعية تُنظم حياة جميع الأفراد الذين سماهم إميل دوركهايم، الأب المؤسس لعلم الاجتماع، بالحقيقة الاجتماعية.
تُمثل الحقيقة الاجتماعية باختصار الحياة الاجتماعية التي هي الجاذبية للمادة. كما أنها تُشكل شرطًا لها.
يُعرّف دوركهايم الحقيقة الاجتماعية على أنها قوة خارجية عن الضمائر الفردية تتمتع بسلطة قسرية على هذه الأخيرة. وبعبارة أكثر بساطة، تبرز إحدى تجليات الحقيقة الاجتماعية عندما يُطلب من الفرد التصرف بسلوك محدد في حالة محددة وأن يحترم قواعد الانسجام المحددة مسبقًا. فعلى سبيل المثال، عندما يتحول مشجع فريق كرة قدم، خجول وإنطوائي بطبيعته، عند انضمامه إلى الحشود إلى شخص جامح وهائج ويشتم الخصم ويكسر مقاعد الملعب ويرميها على الشرطة. يتحمس هذا المشجع في الواقع ويتحول في هذه الحالة الذهنية إلى معيار لم يختاره. ويكون هذا المعيار خارجيًا عنه، ولكنه يفرض نوعًا من أنواع ضغط القيد عليه.
يواجه المنطق نفس الحالة. ودعوني أشرح ذلك: لقد ظهر في ظل التطور التكنولوجي الأخير، على وجه الخصوص، معيار جديد - حقيقة اجتماعية جديدة - مفاده أن النخب وخطابها يفتقران إلى المصداقية [5].
سيكون لدى الناس خلال الجرد استعداد للمقاومة، فرضه المجتمع بالفعل والذي تسهله الغوغاء الإلكترونية المنفلتة من العقاب والممزوجة بمنشورات يتردد صداها في شبكات التواصل الاجتماعي والتي تنطوي على محتوى مُشوّه لمصداقية جميع الشخصيات ذات الصيت الأكاديمي أو السياسي، مهما علا أو تدنى هذا الصيت. ولقد أصبحت النخبوية -اعتبار النخب متفوقة بمعارفها والدفاع عن الخضوع للحكم من قبلها- إهانة وشتيمة. وبالتالي، فقد تحوّل كل ما يتم تجميعه حول مدار النخبوية، على غرار العقلانية والعلوم والمنطق والحس السليم والاستدلال وما إلى ذلك، إلى ضرب من ضروب القدح. وبما أن الحشود لا تفكر بعقلانية [6] ولا تفكر بعقلانية، فإنها تُقرّ بما يُقدم لها.
«على الرغم من عدم براعة الحشود في التفكير العقلاني، فإنها بارعة للغاية في العمل» [7]
تلخص هذه الجملة المميزة لغوستاف لو بون المقتبسة من كتاب «Psychologie des foules» الأداء العضوي للحشود. ويعتبر لو بون الحشود كيانًا مدمجًا غير قابل لا للفصل ولا للاختزال من حيث الأفراد الذين يتألف منهم. ويحكم الحشود «قانون الوحدة العقلية». كما تتمتع هذه الأخيرة بمجموعة من الخصائص التي تُشكل الجزء الأهم والتي تشمل على وجه الخصوص الاندفاع والتهيج وعدم القدرة على التفكير بعقلانية، وغياب التقدير والتفكير النقدي، والمبالغة في المشاعر والإيحاء [8]. وتُصوّر هذه الخصائص ميّل النفوس للالتزام بالوقائع دون التفكير فيها بعقلانية.
وباختصار، فإن الحشود منيعة على التفكيرالمنطقي فحين أنها ضعيفة إلى حد كبير أمام ترابطات الأفكار التي يمكن اعتبارها بدائية أو غير قابلة للتصديق. [9]
نشر غوستاف لوبون كتابه في نهاية القرن التاسع عشر. ولقد كانت الحشود تتجلى في ذلك الوقت بشكل طبيعي في مجموعة من الأشخاص المتواجدين ماديًا في نفس المكان. وفي الوقت الحاضر وفي ظل ظهور الشبكات الاجتماعية والسهولة التي يمكن للأفراد من خلالها التواصل مع بعضهم البعض وإمكانيات النقاشات والتفاعلات في مجموعات الأحياء المعزولة (الغيتو)، فلقد انتشرت هذه الخصائص المذكورة أعلاه لتهتم أيضًا بمجموعة من الأشخاص الذين لا يتواجدون بالضرورة في نفس المكان. ولقد تطورت الحشود بحيث يمكن أن تكون الآن مادية وافتراضية في نفس الوقت. وكنتيجة لذلك، فمن المحتمل أن يكون لديها إمكانات هائلة للتضخيم.
لقد لاحظنا ذلك في عام 2019، بين جولتي الانتخابات الرئاسية، وبعد بث برنامج على قناة الحوار التونسي التلفزيونية الذي أُعلنت خلاله مواقف تؤثر على صورة قيس سعيد، والتي تم على إثرها تنفيذ حملة مقاطعة جماعية شارك فيها أكثر من 900 ألف مستخدم ومستخدمة على فيسبوك [10]. ولقد أبرزت هذه الحملة الاندفاع والمبالغة في مشاعر الحشود التي كانت تتويجًا لاقتراح بسيط قدمه مسؤول عن إحدى الصفحات مؤيّد للمرشح.
نتحدث في ميدان الطب عن مرض متوطن عندما يكون هناك انتشار لمرض معدي في منطقة معيّنة، ونتحدث عن الوباء عندما ينتشر المرض بسرعة وبشكل مفاجئ في عدة أماكن في نفس الوقت.
لقد اكتسبت روح الحشود، بسبب شبكات التواصل الاجتماعي، القدرة على التجديد والتوسع بشكل دائم مع الحفاظ على خصائصها. وكنتيجة لذلك، فلقد انتقلت الحشود من حالة التوطن - الحشود في الشارع - إلى حالة الوباء - الحشود الافتراضية - بحدود غير محددة. وهو ما أدى إلى تخلّي عدد متزايد من الناس عن نطاق العقلانية.
بماذا يخبرنا فرويد؟
لقد رأينا للتو أن للحشود تأثير كبير على التقارب بين الأفراد. ولكن هل هناك بالفعل ميل نفسي خلقي للخطاب غير العقلاني؟
يأتي الجواب على سؤالنا من سيغموند فرويد. يقسّم هذا المحلل النفسي، الذي غير مسار التاريخ من خلال تقديم فكرة اللاوعي للبشرية، شخصية الفرد إلى ثلاثة كيانات، ألا وهي الأنا والأنا العليا والهو.
الأنا العليا: هي وريثة المحظورات والمعايير الأبوية. كما أنها أيضًا سليلة الأنا العليا لوالدينا. فهي القانون الداخلي الذي يملي علينا ما هو الصواب أو الخطأ. وهي تحكم وتراقب وتعاقب الأنا بشدة وحتى بقسوة لمواءمتها مع المقتضيات الغريزية للهو.
الهو: هو مكان الغريزة، وخاصة الرغبة الجنسية (الطاقة الحيوية التي تشمل رغباتنا وشهواتنا وغرائزنا الحياتية بطريقة عامة والتي تحدد نشاطنا الجنسي العيني والمُتخيّل). ويتجاهل الهول الأحكام القيمية أو الأخلاق أو الخير أو الشر. ويخضع أداءه لمبدأ المتعة. كما يدفع نحو التمتع ويتحدى المحظورات.
الأنا: هو جزء من الهو كان قد خضع لتمايز خاص من خلال اتصاله بالواقع الخارجي. ويمثل الحالة النفسية التي يرتبط بها الوعي وهو من يتولى التواصل مع العالم الخارجي. ويكمن دوره في الحفاظ على التوازن النفسي للمرء من خلال التكيّف مع القيود التي يفرضها الهو والأنا العليا.
يتفق جميع علماء النفس على أن الجزء اللاواعي من الجهاز النفسي هو الجزء الأكبر. ويُقدر علماء الأعصاب أن هذا الجزء يحتل 90٪ من نشاطنا العقلي [12].
إذا كان هذا الكيان اللاواعي يتكون، وفقًا لفرويد، من الأنا العليا والهة، فإن ذلك يعني أنه يتضمن الجزء الباطني والغريزي والتلقائي من شخصيتنا. وهكذا، فإن تحفيزه أثناء خطاب أحد الشخصيات السياسية على سبيل المثال - أي تحفيز الميراث والقوانين التي كبرنا معها والأحكام المجتمعية من ناحية، والملّذات والغرائز المكبوتة من ناحية أخرى - لا يمكن في الواقع إلا الترحيب به بأذرع مفتوحة.
وعلى النقيض من ذلك، فلا يستهدف الخطاب العقلاني، الذي لا يثير سوى عُشر أنفسنا، في الواقع إلاّ جزءًا صغيرًا للغاية منها. كما يعتبر هذا الجزء أضعف حتمًا من أن نتذوقه ومن أن يجول في أذهاننا.
الخاتمة
تتفرع أصول هذا النفور مما يمكن تصنيفه على أنه عقلاني إلى عدة عوامل. وتساعدنا جميع العناصر المتعايشة، التي تشمل الحقائق الاجتماعية القائمة وتأثير الحشود على عمليات صنع القرار وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تؤكد الأفكار المُسبقة للأفراد وتجعل منها حقيقة راسخة، بالإضافة إلى التركيبة النفسية، على تحديد الأسباب الكامنة وراء هذا العجز عن تقبّل العقلانية.
نبذة عنا
مختبر الديمقراطية التونسية
يُركز «مختبر الديمقراطية التونسي» على تطوير أفكار مبتكرة حول مشاركة الشباب والتعبئة السياسية. ويهدف المشروع إلى تعزيز الدور الذي يضطلع به المواطن النشط/ المواطنة النشطة في مجال المشاركة السياسية ووضع السياسات. ويجمع مفهوم مختبر الديمقراطية التونسي بين الابتكار والنشاط والسياسة والتكنولوجيا.
يعمل «مختبر الديمقراطية التونسية» على دفع المشاركة السياسية للشباب بالاعتماد على مختبر خاص بالابتكار والتعبئة الرقمية.
قائمة المراجع
[1] https://journals.openedition.org/mots/20534
[2] https://www.cairn.info/magazine-sciences-humaines-2010-1-page-16.htm
[3] https://polaf.hypotheses.org/files/2013/04/008008.pdf
[6] La psychologie de la foule - Gustave le Bon - الصفحة 42
[7] نفس المرجع - الصفحة 7
[8] نفس المرجع - الصفحة 25
[9] نفس المرجع - الصفحات 53-55
[10] https://www.webdo.tn/2019/09/18/elhiwar-ettounsi-visee-par-une-campagne-de-boycott/
[11] https://www.psychologue-montpellier34.fr/2018/01/02/psy-actualit%C3%A9s-moi-%C3%A7a-et-surmoi/