بناء اقتصادات المستقبل
إنّ زرع بذور مستقبل أكثر اخضرارا ونضارة يتطلّب منّا أن نفكّر في الانتقال الطاقيّ بشكل أقلّ من حيث تخفيف الكربون وبشكل أكبر من حيث التّغلّب على العقبات التي تعترض التّحوّل الاقتصاديّ الذي يشكّل في جوهره تحدّيا للاقتصاد السّياسيّ.
لقد كانت نتائج مؤتمر الأمم المتّحدة المعنيّ بتغيّر المناخ (COP28)، الذي عقد في ديسمبر الماضي في دبي، مخيّبة للآمال بنفس القدر سواء للاقتصادات المتقدّمة والاقتصادات النّامية. ففي حين رأى الأوّلون أنّ رغبتهم في التّوصّل إلى اتّفاق بشأن "التّخلّص التّدريجيّ" من الوقود الأحفوريّ محبطة، واضطرّوا إلى قبول لغة أكثر سلاسة تشير إلى "الانتقال بعيدًا" بشكل عامّ، كان لدى هؤلاء آمال كبيرة في إنشاء صندوق "خسائر وأضرار" غنيّ قادر على تلبية احتياجاتهم. وقد تمّ إنشاء الصّندوق فعليّا، غير أنّ قيمته لم تزد عن 700 مليون دولار.
إنّ هذا الجمود يعكس مدى انحراف التّحدّي الذي ينتظرنا. وما من شيء من شأنه أن يمهّد الطّريق للانتقال الطاقيّ على النّطاق الذي نحتاجه سوى تغيير السّرد الحاليّ واستهداف عمليّة تحوّل اجتماعيّ واقتصاديّ "مرغوب فيها" اجتماعيّا من الغالبيّة العظمى لسكّان العالم.
فرصة التّخضير
إنّ التّحوّل إلى نظام طاقيّ منخفض الكربون جار بالفعل بطريقة ما. ذلك أنّ الظّروف التّكنولوجيّة لم تكن أكثر ملاءمة ممّا هي عليه اليوم لخفض الانبعاثات والتّحرّك نحو مصفوفة طاقيّة جديدة، لا سيّما وأنّ النّموذج الذي كان يهيمن ذات يوم على الاقتصاد البيئيّ – والذي يتلخّص في أنّ الطّاقة النّظيفة (منخفضة الكربون) ستكون مكلفة ولكنّها تجلب فوائد أخرى – لم يعد صحيحا.
لقد اكتسب التّحوّل الطّاقيّ زخما على مدى السّنوات القليلة الماضية بفضل مزيج من تكنولوجيا أفضل وفوائد الحجم، حيث أنّ أسعار الطّاقة المتجدّدة من الطّاقة الشّمسيّة الكهروضوئيّة أو طاقة الرّياح تنهار. وفي أجزاء كثيرة من العالم، أصبحت الطّاقة المتجدّدة الآن أرخص من الإنتاج القائم على الوقود الأحفوريّ. ومن خلال جمع هذا مع البطاريّات، التي تنهار تكلفتها أيضًا، أو مع توربينات الغاز كنسخة احتياطيّة، سنكون قادرين في غضون 15 عامًا على بناء أنظمة الطّاقة – أنظمة إنتاج الكهرباء التي تعتمد بشكل كامل تقريبًا على مصادر الطّاقة المتجدّدة، والتي ستنتج في نهاية المطاف كلّ الكهرباء التي نحتاجها – بأسعار تنافسيّة للغاية.
إلى جانب ذلك، ساهمت مجموعة متنوّعة من العوامل المكمّلة في زيادة استثمارات الطّاقة النّظيفة. ويشمل ذلك تعزيز دعم السّياسات من خلال أدوات مثل قانون خفض التّضخّم في الولايات المتّحدة (US-IRA)، والمبادرات الجديدة في أماكن أخرى؛ والمواءمة القويّة بين أهداف المناخ وأمن الطّاقة، لا سيّما في الاقتصادات المعتمدة على الاستيراد؛ والتّركيز على الاستراتيجيّة الصّناعيّة في ظلّ سعي البلدان إلى تعزيز موطئ قدمها في اقتصاد الطّاقة النّظيفة النّاشئ.
حقيقة مخيّبة للآمال
على الرّغم من هذا التّقدّم الذي لا يمكن إنكاره، فقد ارتفع المتوسّط العالميّ لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجويّ بشكل مستمرّ على مدى العقد الماضي، ليصل إلى مستوى قياسيّ في عام 2022. ومن المتوقّع هذا العام أن يتسبّب العالم في انبعاث 40.6 مليار طنّ إضافيّة من ثاني أكسيد الكربون من جميع الأنشطة البشريّة، ممّا يترك 380 مليار طنّ من ثاني أكسيد الكربون كميزانيّة الكربون المتبقيّة، والتي تقيس بشكل أساسيّ كميّة ثاني أكسيد الكربون التي أطلقها البشر والكمّية التي تمّت إزالتها من الغلاف الجويّ عن طريق المحيطات والنّظم الإيكولوجيّة البريّة.
إنّ هذه الكمّيّة الهائلة من الانبعاثات كارثيّة بالنّسبة للمناخ – حيث يوجد احتمال بنسبة 50 في المائة، عند المستويات الحاليّة، أن يصل الكوكب إلى ارتفاع متوسّط درجة الحرارة العالميّة بمقدار 1.5 درجة مئويّة في تسع سنوات فقط.
وعليه، فإنّ التّحدّي الرّئيسيّ في طريق التّحوّل من وجهة نظر تكنولوجيّة بحتة هو أنّه لا يزال لدينا مجموعة كاملة من الوظائف في الاقتصاد، مثل إنتاج المواد الحيويّة اللاّزمة لتجسيد اختراعاتنا، التي لا تعتمد على الكهرباء والتي ما زلنا لا نملك لها بديلاً صديقا للبيئة.
رغم أنّ مصادر الطّاقة المتجدّدة أصبحت أرخص على نحو متزايد فيما يتعلق بالموارد الهيدروكربونيّة، إلاّ أنّ الأسعار النّسبيّة ليست فقط هي التي تحدّد مقدار رأس المال الذي سيتمّ استثماره في محطّات طاقة الرّياح أو الطّاقة الشّمسيّة.
أربع موادّ تحتلّ المرتبة الأعلى على مقياس الضّرورة، وتشكّل ما يسمّيه فاتسلاف سميل (Vaclav Smil) الرّكائز الأربع للحضارة الحديثة: الإسمنت والصّلب والبلاستيك والأمونيا. وتشترك هذه الموادّ الأربع في ثلاث سمات: أوّلا، لا يمكن استبدالها بسهولة بموادّ أخرى؛ وثانيا، سنحتاج إلى المزيد منها في المستقبل في ظلّ سيناريو العمل المعتاد؛ وثالثا، يعتمد إنتاجها على نطاق واسع بشكل كبير على احتراق الوقود الأحفوريّ، ممّا يجعلها مصدرا رئيسيّا لانبعاثات الغازات الدّفيئة.
من ناحية أخرى، تتعلّق التّحدّيات العميقة أيضًا باقتصاديّات التّحوّل الطّاقيّ. وكما أشار بريت كريستوفرز (Brett Christophers) في كتابه "السّعر خاطئ" (The Price Is Wrong)، فإنّه رغم أنّ مصادر الطّاقة المتجدّدة أصبحت أرخص على نحو متزايد في ما يتعلّق بالموارد الهيدروكربونيّة، إلاّ أنّ الأسعار النّسبيّة ليست فقط هي التي تحدّد مقدار رأس المال الذي سيتمّ استثماره في محطّات طاقة الرّياح أو الطّاقة الشّمسيّة. والأهمّ من ذلك هو مدى ربحيّة هذه الاستثمارات، لاسيّما وأنّ العائدات المتوقّعة لا يمكن مقارنتها بعد بعائدات الوقود الأحفوريّ. والأسباب وراء ذلك كثيرة، ولكن من المؤكّد أنّ "تفكيك" أسواق الكهرباء، المقسّمة الآن بين التّوليد والتّوزيع والبيع بالتّجزئة، لم يكن ذا فائدة بأيّ شيء: فقد أصبحت الأسعار متقلّبة للغاية بحيث لا تتمكّن من دعم الاستثمار الرّأسماليّ الأوّليّ الذي تتطلّبه مولّدات الطّاقة المتجدّدة.
ومن وجهة نظر أكثر هيكليّة، يعدّ الحدّ من الانبعاثات أمرا صعبا أيضًا لأنّ تغيير مصادر إنتاج الطّاقة من الوقود الأحفوريّ إلى مصادر الطّاقة المتجدّدة سيؤثّر على التّجارة والصّناعة والتّمويل الحكوميّ، وبالتّالي تغيير توزيع الدّخل وتوليد فائزين وخاسرين داخل البلدان وفيما بينها في هذه العمليّة.. وسوف يتفاقم مثل هذا التّأثير التّوزيعيّ الهائل مع التّكاليف المرتبطة بالتّقاعد المبكّر لقدرات توليد الكهرباء المعتمدة على الوقود الأحفوريّ ("الأصول العالقة").
السّياسة الصّناعيّة الخضراء
يتعيّن علينا، حينئذ، أن نفكّر في الانتقال الطاقيّ بشكل أقلّ من حيث تخفيف الكربون – أنواع القضايا التي تركّز عليها مؤتمرات الأمم المتّحدة المعنيّة بتغيّر المناخ – وبشكل أكبر من حيث التّغلّب على العقبات التي تعترض التّحوّل الاقتصاديّ الذي يشكّل في جوهره تحدّيا للاقتصاد السّياسيّ.
أمّا على المستوى المحليّ، فيتطلّب التّصدّي لهذا التّحدّي اتّباع نهج سياسيّ استراتيجيّ يتجاوز الآليّات القياسيّة لاستيعاب العوامل الخارجيّة. ذلك أنّه على الرّغم من أنّ هذه التّدابير لها دور تلعبه، إلاّ أنّ هناك اعتراف متزايد بحقيقة أنّ الأسواق فشلت في استيعاب التّكاليف البيئيّة بالحجم والسّرعة المطلوبين لتوجيه الاقتصادات نحو الانتقال الطّاقيّ والصّناعيّ. ولا يكمن السّبب فقط في أنّ أداء الأسواق ضعيف في تعبئة وتخصيص موارد واسعة النّطاق في ظلّ ظروف من عدم اليقين، ولكن يعزى أيضا إلى أنّ القرارات الفرديّة التي تتّخذها الشّركات السّاعية إلى تحقيق الرّبح بشأن الأصول التي تسيطر عليها لا تتماشى تلقائيّا مع المطالب الاجتماعيّة الأوسع نطاقا التي ينطوي عليها انتقال اقتصاديّ واسع النّطاق.
إذا كان على البلدان النّامية أن تبني مسارات تنمية قادرة على الصّمود في وجه تغيّر المناخ، فإنّ الأمر يتطلّب بشكل عاجل إيجاد مزيج أفضل من الموارد الدّوليّة وتعزيز الحوكمة العالميّة.
وعلاوة على ذلك، تتمتّع التّدخّلات المستهدفة على المستويين القطاعيّ ودون القطاعيّ بفرص أفضل لتسريع الانتقال في مجال الطّاقة مقارنة بتدابير السّياسات الشّاملة. ولا ينبغي لهذه التّدابير أن "تشجّع دخول" التّكنولوجيا أو الجهات الفاعلة الجديدة فحسب، بل يجب أيضًا أن "تسهّل خروجها" وإعادة هيكلة الشّركات القائمة. ويمكن أن تكون خطط تعريفة التّغذية (FIT)، والشّهادات الخضراء القابلة للتّداول (TGC) فعّالة بشكل خاصّ في هذا الصّدد.
وأمّا على المستوى العالميّ، فيتعيّن علينا أن نعمل على بناء القدرات في البلدان النّامية حيث ستحدث أغلب الانبعاثات في ظلّ سيناريو العمل المعتاد. ولا يمكن أن يحدث هذا إلاّ من خلال نقل التّكنولوجيا، بما في ذلك من خلال مراجعة اتّفاقية الجوانب المتعلّقة بالتّجارة من حقوق الملكيّة الفكريّة (TRIPS) على غرار قرار التّنازل التي تمّ إصداره خلال جائحة كورونا. ويتطلّب هذا أيضًا تحوّلًا كبيرًا في الموارد لتعويض سكان الاقتصادات الغنيّة بالوقود الأحفوريّ عن الفرص الضّائعة بسبب عدم استغلال احتياطياتها، ولتمويل تكلفة التّحوّل الطاقيّ الذي يقدّر، في الاقتصادات النّاشئة والنّامية فقط، بنحو 1.3 تريليون دولار إلى 1.7 تريليون دولار سنويّا.
وبشكل أكثر عموميّة، يمكننا القول إنّه إذا كان على البلدان النّامية أن تبني مسارات تنمية قادرة على الصّمود في وجه تغيّر المناخ، فإنّ الأمر يتطلّب بشكل عاجل إيجاد مزيج أفضل من الموارد الدّوليّة وتعزيز الحوكمة العالميّة. وسيتطلّب هذا تقليص قواعد التّدخّل العالميّة التي ليس لها مبرّر في بعض المجالات، وتوسيع نطاق النّظام في مجالات أخرى، من أجل توفير مجموعة أوسع من المنافع العامّة العالميّة، ومواءمة التّعاون الدّوليّ مع الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة.
بييرجيوسيبي فورتوناتو خبير اقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، حيث يقود مشاريع حول سلاسل القيمة العالمية والتحول الأخضر والتكامل الاقتصادي، وأستاذ خارجي للاقتصاد السياسي في جامعة نوشاتيل. [الآراء المعرب عنها هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة آراء الأمم المتحدة].