23.07.2020

أن تكون من "ذوي البشرة السمراء" في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أصبح من البديهي في الثقافة العربية أن كلمة "أسود"، عند الإشارة إلى أناس من ذوي البشرة الأكثر سمرة من بشرة سكان حوض البحر المتوسط، أي العرب ذوي البشرة الحنطيّة، تُعتبر مصطلحاً غير صائب سياسياً، فاختيار كلمة "أسمر" (ونظيرتها في اللغة التركية "esmer") بدلاً منها يتسم بقدر أكبر من اللباقة والصواب السياسي.

slider

لوحة: يارا هنداوي

لوحة: يارا هنداوي

لوحة: يارا هنداوي

أصبح من البديهي في الثقافة العربية أن كلمة "أسود"، عند الإشارة إلى أناس من ذوي البشرة الأكثر سمرة من بشرة سكان حوض البحر المتوسط، أي العرب ذوي البشرة الحنطيّة، تُعتبر مصطلحاً غير صائب سياسياً، فاختيار كلمة "أسمر" (ونظيرتها في اللغة التركية "esmer") بدلاً منها يتسم بقدر أكبر من اللباقة والصواب السياسي.

وليس من قبيل الاستخفاف التاريخي أن يتم النظر إلى الدلالات الثقافية والاجتماعية لمصطلح "أسود البشرة" عند وصف أناس ينحدرون من أصل إفريقي في العالم العربي. ومع انتشار حركة "حياة السود مهمة/Black lives matter" في مختلف أنحاء العالم، ظل العرب في حيرة من أمرهم، عاجزين عن المشاركة في إدانة العالم للعنصرية ضد ذوي البشرة السمراء. ومؤخراً على تويتر، تشير حركة "حياة العرب مهمة" إلى المحنة الرهيبة التي يعاني منها الفلسطينيون، والتي تغطّي على محنة العرب ذوي البشرة السمراء.

الهويات المتعددة لذوي البشرة السمراء

كيف يمكن للفلسطينيين من أصول إفريقية (وبصورة أعمّ العرب من أصول إفريقية في إسرائيل)، والعراقيين واللبنانيين والأتراك والأردنيين والكويتيين والسعوديين والقبارصة الأتراك والإيرانيين من أصول إفريقية، وجميع الهويات الأخرى في شمال إفريقيا من النوبيين في مصر، إلى قبائل التبووالطوارق ذوي البشرة السمراء والتاورغائيين في ليبيا، والحراطين في موريتانيا، استرداد هوياتهم وإعادة إحيائها؟

ولا بد من الاعتراف بأن سقوط الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن العشرين، وإحياء القومية العربية في البلدان العربية في الخمسينيات والستينيات، كان حافزاً لحجب وإخفاء الأقليات من ذوي البشرة السمراء في المنطقة. وقد تبدو فئة "العرب ذوي البشرة السمراء" بمثابة نقيض لفكرة التوحيد السياسي للعرب، التي تهدف إلى محو الاختلاف العرقي والإثني من أجل الهوية المتجانسة المتصوّرة، التي تتناقض بشكل صارخ مع أي محاولة لإحياء المجتمعات العربية في عهد الإمبراطورية العثمانية.

الإشكالية الكبيرة المغفلة وإرث العبودية الذي لم يُحلّ

لا ينبغي لذوي البشرة السمراء ومجتمعاتهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن ينتظروا وفاة جورج فلويد حتى يحظوا باهتمام أوسع، أو على الأقل أن يُعتبروا مواطنين كاملي الحقوق في بلدانهم. إذ ما يزال العديد منهم يعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية إن لم يكن عليهم "الخضوع للاستعباد" كما هي الحال مع "الحراطين" في موريتانيا. لقد أدت تداعيات وفاة فلويد في أنحاء العالم إلى تحريك المياه الراكدة وظهور الوحل الكامن تحتها، والذي يمثّل المحرمات الاجتماعية والتاريخية المتعلقة بالعبودية والتهميش والتمييز ضد ذوي البشرة السمراء الذين كانوا إما عبيداً سابقين أو سكاناً أصليين. وهي المحرمات نفسها التي تجعل من المستحيل تقريباً تحديد حجم تواجد ذوي البشرة السمراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعدة أسباب، سياسية في المقام الأول، ولكن اجتماعية واقتصادية أيضاً. واستمرّ تهميش هذه الأقلية الظاهرية وعدم إشراكها في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد والمجتمع في بلدانها.

ففي تونس يكاد يكون من المستحيل الحصول على إحصاء رسمي من المعهد الوطني للإحصاء لأعداد التونسيين من ذوي البشرة السمراء اليوم. ويرجع تعتيم الدولة المتعمد إلى الأيام الأولى لإنشاء الدولة التونسية الحديثة، حيث كان نموذج بورقيبة للتجانس العرقي والإثني والثقافي جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الرامي إلى تحقيق سيادة الدولة المستقلة حديثاً. ومنذ ذلك الحين، حُظرت الإحصاءات العرقية بحجة أنها تخلق نوعاً من الفرقة والانقسام في الصورة المتناغمة لتونس (كما سوّقها نظام بورقيبة ثم نظام بن علي في وقت لاحق أمام الغرب لشرح كيفية تمكّن نظامه من قمع أي شكل من أشكال المعارضة، سواء كانت سياسية أو دينية).

وقدّر المجتمع المدني التونسي أن التونسيين ذوي البشرة السمراء يمثلون 10 إلى 15 بالمئة من إجمالي السكان، الذين لا يزالون بعيدين عن أي منصب من مناصب السلطة، على عكس الأمريكيين من أصل إفريقي الذين يمثلون نحو 13 بالمئة من السكان، إلا أنهم تمكنوا من تشكيل لوبي سياسي واجتماعي واقتصادي وأكاديمي قوي لتعزيز مجتمعهم منذ إلغاء العبودية عام 1865. ويبرز فشل تونس في تحقيق ذلك رغم إلغائها العبودية قبل عقدين من الزمان. ثمة عنصرية وتمييز ممنهجان ضد التونسيين من ذوي البشرة السمراء على وجه الخصوص، وذوي البشرة السمراء في شمال إفريقيا عموماً، الذين يشتركون جميعاً في تاريخ العبودية نفسه الذي لم يُحسم على مدى قرون منذ العصور الوسطى حتى يومنا هذا في موريتانيا، التي ألغيت فيها العبودية بشكل رسمي عام 2007.

وفي ليبيا، تصبح العلاقات العرقية أكثر تعقيداً، وهي تسبق الصراع الطويل الذي أنهى حكم القذافي. وتشير التقديرات إلى أن نحو ثلث الليبيين هم من ذوي البشرة السمراء غير المتجانسين، على عكس جيرانهم التونسيين (معظمهم من أصل إفريقي من جنوب الصحراء الكبرى)، وهم مختلفون إثنياً وينحدرون من سلالات من رقيق غرب إفريقيا جُلب أسلافهم عبر الصحراء الكبرى إلى مدن عديدة مثل فزان في الجنوب، وطرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق. وتمثل بلدة تاورغاء، الواقعة بين مدينتي سرت ومصراتة، البلدة الوحيدة التي تسكنها أغلبية من ذوي البشرة السمراء على الساحل.

وقد ارتبط المصير المأساوي لهذه الأقلية بالصراع الذي اندلع في مدينة مصراتة المجاورة عام 2011 حيث وقف أهالي بلدة تاورغاء مع نظام القذافي، ما أدى إلى قيام القوات المناهضة للقذافي في مصراتة بأعمال انتقامية وتشريد قسري منذ ذلك الحين. ويرجع أحد أسباب هذا العداء لأهالي تاورغاء من جيرانهم في مصراتة إلى عنصرية سكان مصراتة ضد ذوي البشرة السمراء. لكن هذه الحادثة غيض من فيض في الصراع المرير: فالحكاية تمتد لعشرات السنين من الضغائن بين الليبيين ذوي البشرة السمراء في بلدة تاورغاء الصغيرة من جهة، التي تخلفت لفترة طويلة قبل أن تحصل على دعم من القذافي بخطابه المتمحور حول تمكين الليبين الأفارقة ذوي البشرة السمراء، وبين مدينة مصراتة من جهة أخرى، التي شهدت هجرة سكان عثمانيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ما جعلها محوراً تجارياً في منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط، والتي عارضت جهود نظام القذافي الرامية إلى إشراكها في مشروعه.

يعيش الليبيون ذوو البشرة السمراء من أقلية التبو في مقاطعة فزان الجنوبية منذ آلاف السنين، ولا تزال حضارة جرما المجاورة التي ينحدرون منها (ذات الأصول البربرية) موجودة ويمكن العثور عليها في جبال أكاكوس بالقرب من الحدود الجزائرية. وفي المنطقة نفسها، يعيش في قلب الصحراء الكبرى أسلاف الطوارق الذين اتخذو أكبر صحراء في العالم موطناً لهم لآلاف السنين، وهم متنوعون جداً إذ توجد بينهم أقلية داكنة البشرة في بلدة غدامس على المثلث الحدودي مع الجزائر وتونس. ولطالما كان هؤلاء الطوارق أنفسهم وسطاء بين العرب والأوروبيين في تجارة الأفارقة ذوي البشرة السمراء فيما يُعرف اليوم بمنطقة الساحل، وكانت نقاط عبورهم هي بلدات مرزق وغات وغدامس في ليبيا.

وفي مصر، وقع النوبيون، السكان الأصليون لصعيد مصر، ضحية للعنصرية بسبب لون بشرتهم، كما تعرضوا للتمييز وتهميش تراثهم الثقافي، الذي يشكل دعامة اللغة النوبية المهددة بالانقراض بسبب السياسات القمعية باسم القومية العربية، والتي مارسها الرئيس السابق جمال عبد الناصر صاحب الأثر الكبير على القذافي في تأسيس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، التي قادت حملة شرسة لتعريب سكان التبو ذوي البشرة السمراء، وكذلك الطوارق والأقليات الأمازيغية، أثناء حكم القذافي منذ عام 1969 وحتى سقوطه عام 2011.

ويمكن رؤية الإرث العثماني للعبودية في تركيا المعاصرة في مجتمع الأتراك من أصول إفريقية، ويبلغ عددهم بضعة آلاف. إذ كانوا محجوبين عن الساحة العامة حتى تأسيس مجتمع الثقافة والتضامن الإفريقي على يد مصطفى أولباك -وهو من سلالة العبيد الكينيين الذين جُلبوا إلى جزيرة كريت- عام 2006 والذي صاغ مصطلح "الأتراك من أصول إفريقية". وقبل ذلك التاريخ، كان يُشار إلى ذوي البشرة السمراء في تركيا بكلمة ARAP (العرب باللغة التركية ولا تزال تُستخدم كلغة عامية للإشارة إلى ذوي البشرة السمراء). ولم يعد المصطلح القديم "زنجي" محبذاً لمعناه العنصري الذي يعود إلى العبودية (جاء المصطلح من زنجبار، تنزانيا حالياً، حيث كان العديد من سكانها يُنقلون كعبيد إلى شبه الجزيرة العربية وبقية الإمبراطورية العثمانية بما فيها منطقة الأناضول). وبعد عام 2006، بدأ العديد من الأتراك ذوي البشرة السمراء يفتخرون بهويتهم الإفريقية كجزء من هويتهم التركية.

المصالحة أو التكيف الاجتماعي

يدّعي العديد من ذوي البشرة السمراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم أن سمرة بشرتهم في شمال إفريقيا وشخصيتهم الإفريقية في الشرق الأوسط يشكلان علامة مهمة لهويتهم المعقدة، ويأملون في مزيد من القبول في المجتمع الـ"أبيض". ولم يكن ذلك المسعى سهلاً لأن الكثيرين ما زالوا يكافحون وصمة العنصرية ضد ذوي البشرة السمراء وأصحاب البشرة الملونة والتمييز بسبب مركزهم الاجتماعي والاقتصادي، كونهم ما زالوا ينتمون إلى الطبقات الدنيا من المجتمع. ويحاول البعض التكيف مع بيئتهم كسكان متجانسين، والتبرؤ من سمرة بشرتهم بغية الاندماج في المجتمع العربي. ولكن الكثير منهم فخورون باختلافهم كأصحاب بشرة سمراء أو منحدرين من أصل إفريقي ويحاولون التصالح مع مجتمعهم الأبيض. وكان ظهور أوباما كأول رئيس أسمر للولايات المتحدة عام 2009، والأحداث التي تلت ذلك في الربيع العربي ورياح التغيير التي وفّرت منصة ديمقراطية لمجموعات الأقليات للتعبير عن آرائها، وحركة "حياة السود مهمة" الأخيرة سبباً في دفع الأقليات من ذوي البشرة السمراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى إبراز هويتها السمراء والعربية والبربرية والشرق أوسطية. وسوف يستغرق الأمر حقبة من الزمن قبل أن تنجح هذه الجماعات في بناء منظمات شعبية تسعى إلى التخلص من وصمة الثقافة العامة للمجتمعات التي تصور ذوي البشرة السمراء على أنهم عبيد سابقون أو عاملون منزليون (كما هي الحال في دول الخليج ولبنان بشكل خاص) وتمكّنهم من إحداث تغيير في بلدانهم مستقبلاً.