23.04.2020

هل يتسبب التغير المناخي في ظهور أوبئة جديدة؟

ربما يكون أحد أخطر تداعيات التغير المناخي في المستقبل هو إمكانية ظهور أو إعادة إطلاق فيروسات وبكتيريا وطفيليات مستجدة.

خلال السنوات المائة الماضية، تعرضت الحضارة الإنسانية لبعض الأوبئة التي انتشرت عالميا مثل الانفلونزا الآسيوية، الكوليرا، الإيدز وانفلونزا الخنازير. وقد يكون وباء كوفيد 19 الذي يجتاج العالم حاليا هو أخطر وباء يواجه العالم منذ الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت في العام 1918، حيث أنه يشكل خطرا جسيما على أنظمة الرعاية الصحية في كافة أنحاء العالم.

إلى جانب التغير المناخي، يعتبر كوفيد 19 أهم تحد يواجه جزءا كبيرا من سكان العالم. هذا التحدي يجب أن يدق أجراس الإنذار ويوجه الأنظار نحو سؤالين رئيسيين: هل يمكن أن يساهم التغير المناخي في ظهور أوبئة جديدة في المستقبل؟ وهل يتسبب غياب الإرادة السياسية لمواجهة التغير المناخي حاليا في وضع الإنسانية بمواجهة وباء جديد؟

كيف يؤثر التغير المناخي على الأمراض؟

هنالك رابط وثيق بين التغير المناخي وصحة الانسان وبعدة طرق. حيث تتضمن التأثيرات المثبتة للتغير المناخي زيادة في درجات الحرارة والتغير في انماط هطول الأمطار وزيادة في تكرار وحدة بعض الظواهر الجوية المتطرفة وتغيرات في انتشار الكائنات الحية البرية وارتفاع في مستوى سطح البحر. تهدد هذه التأثيرات صحتنا عن طريق التأثير على الطعام الذي نتناوله، والمياه التي نشربها والهواء الذي نتنفسه والطقس الذي نعايشه. يمكن أن يؤثر التغير المناخي بشكل خاص على البشر الذين يعيشون في مناطق مهددة بالعواصف الساحلية والجفاف وارتفاع مستويات سطح البحر، أو البشر الذين يعانون من ظروف الفقر وكبار السن والمجتمعات المهجرة. قد يكون سكان الدول النامية هم الأكثر عرضة للمخاطر الصحية عالميا، لكن التغير المناخي يشكل خطورة شديدة على الصحة حتى في الدول الثرية.

تتضمن سيناريوهات التغير المناخي حدوث تغيرات في أنماط انتشار الأمراض المعدية مع ارتفاع درجات الحرارة وكذلك انتشار الأوبئة المرتبط بالظواهر الجوية المتطرفة. نشهد حاليا تغيرا واضحا في مدى انتشار الأمراض المحمولة عبر الكائنات الناقلة نتيجة للتغير المناخي. أهم أنواع الأمراض ذات الحساسية لتغيرات المناخ هي الأمراض الفيروسية والطفيلية المحمولة عن طريق البعوض مثل فيروس غرب النيل والملاريا وحمى الدنج وغيرها.

يؤثر التغير المناخي على انتشار الأمراض عن طريق تغيير المدى الجغرافي للكاثنات الناقلة وتقليص مدة حضانة الكائنات الممرضة. كما يمكن أن تساهم درجات الحرارة في تغيير نمو الكائنات الناقلة لمسببات الامراض عن طريق تعديل معدلات قدرتها على لسع الضحايا، وكذلك تؤثر درجات الحرارة على ديناميكية المجتمعات في الكائنات الناقلة ومعدلات وجودها بالقرب من البشر. وبالتالي فإن التغير في أنظمة درجات الحرارة يمكن أن يغير طول مدة موسم نقل الأمراض. كما يمكن أن تتكيف الكائنات الناقلة للأمراض مع التغيرات الحرارية عن طريق تعديل مدى انتشارها الجغرافي وتوسعته.

ربما يكون أحد أهم نتائج التغير المناخي هو إمكانية ظهور أو إعادة إطلاق فيروسات وبكتيريا وطفيليات مستجدة. يمكن أن يؤدي الإجهاد الحراري الى زيادة إمكانية نقل مسببات الأمراض ذات المنشأ الحيواني من حيوان الى آخر، كما يمكن أن يساهم في رفع احتمالات انتقال هذه الجراثيم الممرضة ما بين الأنواع المختلفة. بالنسبة للعديد من مسببات الأمراض، تلعب البيئة المحيطة دورا كبيرا في نقل الأمراض وبالتالي فإن حدوث تغير في الظروف البيئية كدرجة الحرارة على سبيل المثال قد يؤدي الى تغير نطاق الانتشار الجغرافي والتنوع في السلالات والتغيرات الموسمية لتواجد الكائنات الممرضة في الطبيعة، وهذا من شأنه التسبب بظهور إنتشارات مرضية جديدة مثل الإيبولا والسارس والميرس وغيرها.

السياق البيئي للعدوى المرضية:

من المعتاد أن تنشأ الأمراض من الموائل البيئية والكائنات البرية وثم تجد طريقها نحو الإنسان، حيث أن 75% من كافة الأمراض المعدية لها منشأ حيواني. ولكن نجد مؤخرا أن أعداد الأمراض الجديدة الناشئة في ارتفاع خلال العقود الماضية وخاصة نتيجة لزيادة تعدي الإنسان على موائل الحيوانات البرية عن طريق إزالة الغابات. وهذا يعني زيادة في نسبة انتقال الفيروسات من الحيوانات للبشر بسبب زيادة الاحتكاك بينهما. يتراجع انتشار الفيروسات بسرعة في الأنظمة البيئية المتنوعة والمنفصلة بشكل واضح عن التجمعات السكانية البشرية وأحيانا بدون أن تتمكن من إحداث أي انتشار واسع للمرض. ولكن الأنظمة البيئية المتدهورة تخسر بسرعة الكائنات المفترسة التي تتربع على رأس الهرم الغذائي تاركة ورائها الكائنات الصغيرة التي تتحرك بسرعة وتتكاثر بكميات كبيرة وتتميز بوجود أنظمة مناعية قادرة على استضافة مسببات الأمراض دون أن تموت نتيجة لتلك الأمراض، كما أن هذه الكائنات تزدهر وتنتشر قريبا من البشر.

ومع وجود سوق كبيرة للتجارة بالحيوانات البرية أصبحت إمكانية ظهور انتشارات واسعة للأوبئة في التجمعات السكانية الكبيرة عالية جدا. عندما تتعرض الكائنات الحية للضغوط كما يحدث في حالة الأسر والاحتجاز في أقفاص ضيقة ومع الاحتكاك اللصيق مع البشر ترتفع نسبة خطورة نقل الأمراض. إن التوتر الذي تعاني منه الحيوانات نتيجة سوء المعاملة يزيد من إمكانية حملها لأمراض خطيرة لأن أنظمتها المناعية تتعرض للانهيار في الأسر. تتوافر الظروف المناسبة لظهور أمراض جديدة في أسواق الحيوانات البرية المكتظة والمعروفة "بالأسواق الرطبة" حيث يتم ذبح الحيوان عند بيعه بناء على رغبة الزبون.

إن أحد أهم مفاتيح توقع نشوء الأوبئة القادمة وبالتالي منعها هو إدراك وضرورة تطبيق الإجراءات الوقائية التي تتمثل في المحافظة على تكامل الطبيعة ونقائها وبالتالي فإن حماية التنوع الحيوي في منطقة ما من العالم قد يساهم في منع الأمراض من الظهور والانتقال إلى مناطق أخرى.

الخطر المتجمد:

إن أحد أخطر التهديدات الحديثة التي قد تنتج عن تغير المناخ لا يزال متجمدا حاليا ولكن ليس لوقت طويل. في العام 2015 تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل عينات جليد من هضبة التبت في الصين بهدف دراسة الكائنات المجهرية التي تعيش في الجليد منذ آلاف السنين لمعرفة وفهم الظروف المناخية والبيئية القديمة التي تمت أرشفتها في الجليد. وجد العلماء أنه خلال آخر 15 ألف سنة احتفظت المناطق الجليدية بعينات من فيروسات كثيرة غير معروفة للعلم الحديث. أظهرت الدراسة وجود 33 مجموعة من أنواع الفيروسات في الجليد منها 28 نوع لم يتم اكتشافها ومعرفتها سابقا ولا توجد أية معلومات حول خصائصها البيولوجية وقدرتها على تشكيل خطر على الصحة.

نتيجة للتغيرات المناخية والاحترار الذي يواجهه النظام الرابط بين الغلاف الجوي والمحيطات على كوكب الأرض فإن المناطق الجليدية في العالم تعاني من تقلص مستمر في مساحاتها وذوبان للكتل الجليدية وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى كشف الغطاء الجليدي وإطلاق سراح الجراثيم والفيروسات المتواجدة منذ زمن في تلك المناطق. لم يتمكن العلماء بعد من التعرف على كل المخاطر الممكنة المرتبطة بالفيروسات التي تم تسجيلها مؤخرا وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان تطوير إجراءات وقائية. لكن سوف تتمكن الدراسات في المستقبل من توفير إدراك أفضل لكيفية تطور هذه الجراثيم والفيروسات وتفاعلاتها، وسوف تساهم في تطوير نماذج ايكولوجية تنبؤية مبنية على التغيرات المناخية السابقة التي يتم استنباطها من هذا الأرشيف البيئي المتجمد. وفي هذا السياق يبقى الحل الأكثر فعالية وتأثيرا هو الحاجة إلى الحفاظ على نقاء وتكامل الغطاء الجليدي والكتل الجليدية.

لقد تسببت الأمراض المعدية الناشئة في أكبر حالات الانتشارات الوبائية التي واجهتها الحضارة البشرية وأكثرها دمارا ومنها الجدري، وهكذا علمنا التاريخ بأن الأمراض الناشئة قد تكون في منتهى الخطورة. لقد أخذ فيروس كورونا المستجد العالم بأسره على حين غرة وبعد هذه التجربة علينا أن نكون مستعدين لمواجهة أوبئة أخرى في المستقبل قد تظهر نتيجة التغير المناخي. وعلى خلاف المفاجأة الكبيرة التي تعرضنا لها في مواجهة كوفيد 19 نحن نملك حاليا مستوى لا يستهان به من المعرفة حول التأثيرات الصحية للتغير المناخي وما زلنا نحظى بمستوى من "الترف" الذي من شأنه أن يساعدنا على التخطيط بشكل مسبق لتطوير إجراءات وقائية وعلاجية متكاملة.